الإمام الحسين.. ومشروعية الثورة

الإمام الحسين.. ومشروعية الثورة

ارتقت هذه الثورة على مستوى الواقعية والرومانتيكية، كونها أحدثت تغييراً جذرياً في مسار الأمة،

ارتقت هذه الثورة على مستوى الواقعية والرومانتيكية، كونها أحدثت تغييراً جذرياً في مسار الأمة، وأعادت إليها كرامتها المهدورة، وصحّحت المفاهيم العظيمة للإسلام بعد أن حرّفها الأمويون، وزيَّفوها في الأذهان، فكانت عظيمة في تضحيتها، عظيمة في عطائها، وعظيمة لأنها انتهت بأروع استشهاد في تاريخ البشرية، وأعظم تضحية مثلت ذروة العطاء البشري، فتغلغلت في الضمير الإنساني وأحيت الضمائر شبه الميتة التي خنقتها سياسة الجور الأموية، وعظيمة لأنها كانت التحدّي لأبشع وأقسى سياسة في تاريخ الإسلام، فالثورة في ذلك الوقت تعني الموت بلا شك، والحسين كان أكثر الناس وعياً بتلك المرحلة فقدّم نفسه فدية متوهّجة بالدم..   

من هو الحسين ؟

ولماذا قام بالثورة ؟

وماذا أراد بثورته ؟ 

بغض النظر عن انتمائه الذي ينتهي إلى أقدس وأطهر أسرة عرفها الوجود، الحسين صرّح عن نفسه بنفسه: (إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً، ولا ظالماً، ولا مفسداً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله، أريد أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر).

لقد جمع الحسين في كلمته هذه، مبادئ الرسالات السماوية كلها، فحمل رسالة عظيمة، وإرثاً ضخماً تمثل في القيم والمُثل التي حملها الأنبياء، وبالمقابل فقد كان عليه أن يواجه عدواً حاول بشتى الوسائل سحق هذه المبادئ، ومحو هذه الرسالة، وإماتة كل إحساس بها في ضمير الأمة.

الحسين.. وقف وحده مع قلة قليلة ليموت هو ومن معه ليعلم الناس كيف يعيشون وكيف يموتون، علّمهم معنى الكرامة بقوله: (ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركّز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام). وعلمهم أيضاً كيف يكونوا حقاً (خير أمة أخرجت للناس).

الحسين.. كان كفؤاً للمهمة الملقاة على عاتقه ففجّر ثورته التي انبثقت عن أعظم شهادة في تاريخ البشرية، فكانت شهادته ضماناً لحياة أمة، وأساساً لبناء عقيدة، وكشفاً لأقنعة الزيف والظلم والطغيان الأموي، وإدانة لممارساته البشعة المنحرفة، وإنقاذاً لرسالة السماء من أيدي المحرّفين والمنحرفين.

الحسين.. سطّر بشهادته أعظم درس للبشرية وهو (الرفض) للظلم والفساد بأحرف حمراء من دم الشهادة فبقيت كلماته تدوّي في الأجيال: (لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد)، فما أعظمه من درس، وما أقدسه من موقف، وما أجلّها من عِظة.

الحسين يعلمنا كيف يكون الإنسان شجاعاً في الحق لا ترهبه صولة الباطل ولا تخدعه زهرة الحياة عن أداء رسالة الحق والخير والإيمان ولا يداهن على حساب دينه وكرامته، حتى إذا عاش عاش عزيزاً، وإذا قضى قضى مع الأبرار كريماً (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ).

الحسين تلميذ أبيه القائل: (الموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين)، علّمنا أن اليد الطاهرة النقية لا تخضع لليد الآثمة الملوّثة وإلّا صارت مثلها، وقد قال: (وعلى الإسلام السلام اذا ابتليت الأمة براعٍ مثل يزيد)، وقال: (والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية)، وتتجلى روعة موقفه في يوم عاشوراء على ما هو عليه ماضٍ بقوله: (أمضي على دين النبي).

الحسين وريث جده النبي محمد، ووريث دعوته المباركة التي قضت على الجاهلية وأنقذت الإنسان من العبودية، فكان الحسين امتداداً لتلك الدعوة بثورته ضد التحريف والظلم الأموي، فقام بدوره التاريخي الرسالي من أجل إنقاذ الرسالة من أعدائها في الجاهلية والإسلام، فكان المثل الأعلى لكل ثائر على الظلم في كل الأزمان

الحسين لا يعني اسم شخص خرج على الظلم فقط، إن الحسين هو رمز عميق الدلالة، رمز للحرية والكرامة، رمز للبطولة ولكلمة الحق، رمز للإنسانية والأمل، رمز لكل قيم السماء، ولم تكن ثورته صراعاً بين قوى الخير وقوى الشر فقط، بل هي في الواقع صراع بين القيم الإنسانية العليا وبين رواسب الجاهلية السفلى، صراع بين رسالة السماء وعبادة الأصنام، بين الأنبياء وعبدة العجل، بين الإصلاح والإفساد، بين الفضيلة والرذيلة، بين النبل والخسّة، بين الشرف والإنحلال، بين السمو والوضاعة. 

وريث النبوّة

لقد شاع الجور والفساد في الأرض، وها هي ارستقراطية قريش وجاهليتها وطبقيتها تعود من جديد على يد معاوية لتأخذ في عهد ابنه يزيد منحى الكفر الصريح بالإسلام، ولتصبح المدينة ــ مدينة الرسول ــ في قمة الانحدار الأخلاقي ومنتجعاً للرقص والغناء والخمر والفساد لولاة الأمويين وأتباعهم كما في سائر البلاد (1) وتضاءلت المنظومة الأخلاقية أمام هذا التيار الجاهلي الجارف.

لقد أحكمت السلطة الأموية قبضتها وبدأت الجاهلية تعيد هيكلتها من جديد وصار رموزها يجاهرون بما انطوت عليه نفوسهم وأظهروا ما كانوا يبطنون، فالحصانة السياسية أعطيت لأبي سفيان وهو يركل قبر الحمزة متشفيّاً بقوله: يا أبا عمارة إن الأمر الذي قاتلتنا عليه أصبح في يد صبياننا !! (2).

ونزت أضغان معاوية وأحقاده على رسول الله (ص) ليقول: أي ذكر أرجو بقاءه ؟! ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل: أبو بكر ! ثم ملك أخو عدي، فاجتهد وشمر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل: عمر ! وإن ابن أبي كبشة ــ يقصد النبي (ص) ــ ليُصاح به كل يوم خمس مرات: أشهد أن محمدا رسول الله ! فأي عمل لي يبقى، وأي ذكر يدوم بعد هذا ! لا والله إلا دفنا دفنا) ! (3)

وها هو يزيد سليل الكفر يتربع على عرش الخلافة ليعيد سيرة أبيه وجده، واشرأبت الأصنام بأعناقها، وبدأ الأمويون يتطلعون لمحق الإسلام، وكادوا.. لولا صرخة الرفض التي أطلقها الحسين بوجوههم والثورة التي زعزعت كيانهم فهو سليل النبوة ووريث الرسالة وأجدر الناس بحفظ شريعة جده (ص) وابن أشرف أسرة عرفها التاريخ وحامل أمجادها.

لقد أعلن الحسين ثورته من أجل تحقيق القيمة الحقيقية للإنسان وحفظ إنسانيته وكرامته. فترك إرثاً عظيماً لم يترك مثله عظيمٌ غيره في أمته، هذا الإرث الذي فاض بنميره على البشرية حتى أغدقها فكراً وعطاءً وغمرها نوراً وحياة فأينعت به الضمائر واخضرّت به القلوب في دوائر الجهات فطفقت نبضات انطوان بارا لتردد: (لو كان الحسين منا لنشرنا له في كل أرض راية، ولأقمنا له في كل أرض منبراً، ولدعونا الناس إلى المسيحية بإسم الحسين)، وخفقت جوانح جبران خليل جبران لتتلو: (لم أجد انساناً كالحسين سجّل مجد البشرية بدمائه)، وشخصت أنظار غاندي نحو هذا الشاخص المتألق في تخوم الدهر لتتلو في خشوع: (تعلّمت من الحسين أن أكون مظلوماً حتى انتصر). وهؤلاء الثلاثة ليسوا بمسلمين، فما أعظم الحسين ؟

لقد أدرك هؤلاء وغيرهم كثير من العظماء الذين وقفوا على سرِّ عظمة الحسين وقالوا فيه، معنى هذه العظمة، ووعوا الأهداف الإنسانية السامية النبيلة التي سار عليها الحسين، وضحى من أجلها واستهان بحياته في سبيل تحقيقها، وهي أهداف تشترك في سبيل تحقيقها الإنسانية جمعاء، فالإنسانية ليست وقفاً على دين من الأديان، أو قومية من القوميات، وهذه الإنسانية حمل أهدافها الإمام الحسين يوم الطف.  

ويتجلّى الهدف السامي من ثورة الحسين واستشهاده في قوله: (أيها الناس: إن رسول الله صلى‌ الله ‌عليه ‌وآله قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرّموا حلاله).

فأيّ هدف أسمى وأرقى وأنقى وأعظم من هذا الهدف ؟ ولقد صرح الحسين برأيه هذا مراراً وتكراراً من أجل إيقاظ الأمة وتحريرها من العبودية فأرسل كلمته في عمق الأمة : (إنا أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله).

........................................................................................................

1 ــ الإكليل / ابن يعقوب الهمداني ص 110

2 ــ شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد ج 4 ص 51

3 ــ نفس المصدر ج 5 / 129