كان من الطبيعي أن يحمل أولئك المهاجرين الشيعة الهاربين من ظلم بني أمية تلك الحرارة التي (لا تبرد أبداً) حرارة الدماء الطاهرة التي سالت على أرض الطف والتي تجري في نبض كل مؤمن وحيثما يوجد الشيعة توجد الشعائر الحسينية في أي زمان ومكان، حتى وصلت إلى جميع أصقاع العالم وكان لها الفضل في دخول الكثير إلى الإسلام، يقول الكاتب الفرنسي الدكتور جوزيف: (ويمكن القول بأنه لا يمضي قرن أو قرنان حتى يزيد عدد الشيعة على عدد سائر فرق المسلمين، والعلة في ذلك هي إقامة هذه المآتم التي جعلت كل فرد من أفرادها داعية إلى مذهبه).
وقد دلت كل الحقائق التاريخية على أن الشيعة هم أول من أدخل الإسلام إلى هذه القارة حتى أصبحت جزء من الحضارة الإسلامية، يقول السيد سعيد أختر الرضوي في بحث له نشر باللغة الإنكليزية: (إن التشيّع وصل إلى أفريقيا في القرن الأول الهجري عندما فشا الظلم وسفك الدماء في البلاد الإسلامية على يد الحجاج بن يوسف الثقفي فاضطر فريق من الشيعة إلى الهجرة البعيدة فكان من الأماكن التي وصلوا إليها أفريقيا الشرقية).
ثم يذكر بواكير هذه الهجرة فيقول: (إن زعيمين أحدهما يسمى سليمان والآخر سعيد كانا من طلائع هذه الهجرة ولكن التفاصيل عنهما وعن رحلتهما مجهولة).
أما عن تاريخ هذه الرحلة فيستند السيد أختر إلى ما جاء في كتاب (المتكلمون بالسواحلية من أهل زنجبار وساحل أفريقيا الشرقي) الذي ينص على (أن هذين الزعيمين جاءا بصحبة أتباعهما في السنة السابعة والسبعين من الهجرة (695م).
ويعتقد المستر (برنس): (أن هناك هجرات مماثلة حدثت) ثم يقول: (ولكننا لم نسمع عنها) ويروي مؤلف الكتاب الآنف الذكر قصة رجلين أدخلا الإسلام إلى جزيرة (كيوايو) اسمهما حمزة وجعفر ثم ينسبهما إلى بني أمية ويقول: (إنه يظن أن الأول هو ابن عبد الملك بن مروان والثاني أخو عبد الملك).
وفي الحقيقة إنهما كانا من الشيعة المهاجرين من ظلم بني أمية ومثل هذا الخلط في الأسماء يقع كثيراً عند الكتاب البعيدين عن الجزيرة العربية والبلاد الإسلامية القريبة منها ويفنّد السيد أختر هذا القول بقوله: (لم يكن لعبد الملك ابن يسمى حمزة ولا أخ يسمى جعفر ويمكن أن يكون صاحبا هذين الإسمين من الشيعة اللاجئين إلى تلك البلاد)، كما يرد المستر برنس على هذا القول بقوله: (ولكن ذلك يشير إلى تقليد شيعي بقدر ما يوحي هذان الإسمان).
ويشير (برنس) إلى تأثير وصول الشيرازيين الأقدمين إلى السواحل الأفريقية وكيف انطبع الشعب بالطابع الشيعي حيث يقول: (أثر هؤلاء لا يزال ظاهراً في قالب من المودة العميقة لأهل البيت التي تعد من ميراث المسلمين الأفريقيين) وعن تقاليد الأفريقيين في التعامل مع السادة من أبناء الرسول يقول برنس: (إن هؤلاء الأفريقيين يضيفون إلى أسماء سلالات الرسول كلمة شريف التي انقلبت في اللغة السواحلية إلى كلمة (شريفو) كما أنهم يكرمون الصالحين من أموات هؤلاء الأشراف).
ثم يصف مزارات الأشراف وما يوليها الأفارقة من العناية والإحترام فيقول: (وعلى طول الشواطئ تقوم مزارات هؤلاء الأشراف الصالحين وفي (لامو) أهم مركز للزيارة حيث يؤمها في اسبوع الزيارة عشرات الألوف كل عام وتعتبر زيارة الشريف صالح بن عبد الله العيدروس في (لامو) أفخم الزيارات وأهمها) ويضيف السيد أختر على كلام برنس فيتحدث عن مدى مودة الأفارقة لأهل البيت(ع) واحترامهم بقوله: (وهذه الدرجة من الإكرام الكبير لأهل بيت الرسول(ص) لا يوجد لها مثيل في بلد من البلاد الأخرى).
ثم يقول مؤكداً إن هذه التقاليد عريقة في القدم وإن لها جذور في تلك البلاد: (وإنني أعرف كثيراً من الشيوخ في لامو وزنجبار ممن يصرّحون باعتقادات تعتبر في تلك البلاد الأخرى من اعتقادات الشيعة) ويستدل السيد أختر على أثر آخر من آثار الشيعة في أفريقيا مؤكدا أن الإسلام دخل على أيديهم إلى تلك البلاد فيقول:(ويتأكد وصول الشيعة إلى أفريقيا الشرقية في وقت مبكر وتأثيره التأثير العميق في الحياة الأفريقية بما ورد في الملحمة السواحلية (النظم في أحوال الحسين بن علي عليه السلام) التي نشرها سنة (1960) الأديب الأفريقي (بورو) مع تعليقات وترجمة (ألن)
وهذه الملحمة كتبها حمد عبد الله البحري في القرن التاسع عشر ــ ويظهر أنها إعادة لكتاب سابق ــ وتحتوي هذه الملحمة على ألف ومائتي وتسع (1209) مقطوعات شعرية).
والجدير بالذكر إن هذه الكتابة التي كتبها حمد عبد الله البحري للملحمة هي إعادة لكتابتها التي كتبت قبل هذا التاريخ بزمن طويل.
ويتحدث الأستاذ محمود شاكر في كتابه (تنزانيا) عن تتابع الهجرات التي قام بها الشيعة هرباً من ظلم الأمويين ثم العباسيين فيقول: (لقي الشيعة أنواعاً من الإضطهاد وأصنافاً من العذاب، فمنهم من قتل ومنهم قضى نحبه في غياهب السجن، ومنهم من فر من وجه العباسيين فمن هؤلاء الذين فروا، جماعة في أواخر القرن التاسع الميلادي متجهين نحو شرق أفريقيا، وتوزعوا هناك جنوب مقديشو، وكانوا يدعون للإسلام ــ حسب مذهبهم ــ فانتشرت الدعوة على يدهم، وذهبت جماعة إخرى من شيراز يعود إليهم الفضل في نقل المذهب الشيعي إلى تلك الأصقاع).
ثم يسرد شاكر في كتابه قصة إحدى الهجرات التي قام بها رجل من الشيعة مع أبنائه الستة وتوزعوا في عدة مدن من القارة الأفريقية وهذا الرجل اسمه الحسن بن علي وهو اسم شيعي بحت وله دلالة ومؤشر يضاف إلى تلك الدلائل والمؤشرات على أن الشيعة هم من نقل الإسلام إلى تلك القارة يقول شاكر: (وتروي الأخبار أن من أشهرهم رجلا يدعى الحسن بن علي ذهب إلى شرق أفريقيا لأسباب وظروف غامضة مع أبنائه الستة في القرن العاشر الميلادي حوالي العام (975م) فتفرقت بهم السفن قبل الوصول فنزل أحدهم في مدينة (مومباسا)، ورست مراكب الآخر في جزيرة (بمبا)، بينما وصل الثالث إلى جزيرة (جوهانا) إحدى جزائر القمر، أما الأب فقد نزل مع بعض أبنائه الآخرين في مدينة (كيلو) واستطاع الأب أن يؤسس بعد نزوله بمدة من الوقت حكومة امتدت حتى شملت المناطق التي يقيم فيها أبنائه)، أما بالنسبة للظروف التي دعت الحسن بن علي وأولاده إلى الهجرة والتي وصفها الأستاذ محمود شاكر بـ (الغامضة) فذلك يستدعينا الرجوع إلى ذلك التاريخ وهو القرن العاشر الميلادي (نهاية القرن الرابع الهجري) الذي شهد الكثير من الأحداث والإضطرابات في العالم الإسلامي منها دخول القرامطة إلى مكة وأخذهم الحجر الأسود واستيلاء جوهر الصقلي على مصر لصالح العبيديين وظهور الحركات الإنفصالية فاستقلت الكثير من البلاد ونشبت حروب طاحنة بين البويهيين والحمدانيين والجند الأتراك وقيام الدولة الغزنوية وانهيار دولة الأندلس واضمحلال الخلافة العباسية كل ذلك ساعد على ازدهار الهجرة.
وعن إقامة الشعائر في تلك البلاد يحدثنا السيد صالح الشهرستاني في (تاريخ النياحة على الإمام الشهيد الحسين) (ج2ص93) نقلا عن كتاب (إقناع اللائم في إقامة المآتم) للسيد محسن الأمين العاملي (ص211) (أن أهالي زنجبار يقيمون مراسيم الحزن يوم عاشوراء) وهم (يحبون الحسين لقيامه بالسيف ومقاومته للظلم) ويذكر السيد محسن الأمين أيضا في (أعيان الشيعة) (ج56ص62) قوله: (ولا ننسى كذلك اسم المرحوم علي باتو الذي أدى خدمات كبيرة لدولة زنجبار خلال الفترة بين عامي (1914 ــ 1918) وقد قال له السلطان ذات يوم: اختر أنت بنفسك الجائزة التي تريدها مقابل خدماتك فأجاب على الفور:
كل ما أريده أن يكون اليوم الحادي والعشرون من الشهر التاسع القمري واليوم العاشر من الشهر الأول القمري، يومي عطلة رسمية، فوافق السلطان على ذلك ومنذ ذلك اليوم تعطّل الدوائر الرسمية كل سنة في ذكرى مقتل الشهيد علي ومقتل الشهيد الحسين).
وهذان اليومان هما (21 من شهر رمضان) و(10 محرم) ويعقب السيد صالح الشهرستاني على هذه الحادثة بقوله: (وقد نقل لي هذه الحكاية أيضا في طهران أحد مسلمي زنجبار الذي هجرها وأقام في عاصمة إيران وقال: إن علي ناتو كان من كبار تجار زنجبار الأثرياء).
ويتواجد الشيعة في أفريقيا الشرقية في تنزانيا وكينيا وأوغندا والصومال وموزمبيق ومدغشقر والكونغو وجزيرتي موريتشس وريئونيون الواقعتين في جنوب المحيط الهادي وهم محافظون أشد المحافظة على تعاليم دينهم حيث يذكر السيد حسن الأمين: (إن هم الواحد منهم هو كيف يحفظ في أولاده دينهم الإسلامي وعقيدتهم الشيعية، وإن هذا الهم هو همه الأول والآخر، وإن لا شأن من شؤون الحياة يصرفه عنه).
وحديث السيد حسن الأمين عنهم كان حديث شاهد عيان حيث يعقب: (ولقد شهدتهم في أروشا وتانكا ومومباسا ومساجدهم عامرة بالشبان قبل الشيوخ ورأيت أطفالهم ينكبون على القرآن يحفظونه ويرتلونه ورأيت فتيانهم شعلا من الإيمان).
أما شعائرهم في ذكرى مقتل الحسين فلا تقتصر على شهري محرم وصفر ففي شهر رمضان يقيمون مجالس العزاء بعد صلاتي المغرب والعشاء في الحسينية المجاورة للمسجد في مدينة مومباسا حيث يستمعون إلى الخطيب الذي ينهي محاضرته بذكرى استشهاد الإمام الحسين كما يحتفلون بمولد الإمام الحسين وأخيه العباس والإمام زين العابدين(عليهم السلام).
وكان لهذه الهجرة والشعائر الفضل في دخول الكثير من الهندوس المهاجرين إلى الإسلام يقول السيد حسن الأمين: (إن أجدادهم القدامى هم من الهندوس في الأصل ثم اعتنقوا الإسلام وكل من كان هندوسيا اعتنق الإسلام يطلق عليه في الإصطلاح الهندي لقب (الخوجا) ثم يقول: (فتمسكوا بالتشيع تمسكاً كاملاً وحافظوا على عقائدهم الإسلامية محافظة تامة وأخذوا على أنفسهم تربية أولادهم على ما رباهم عليه آباؤهم).