إن الذي كان نوراً يستضــــــاء به *** في كربـــلاء قتيلٌ غير مدفونِ
سبط النبي جـــــــزاكَ اللهُ صـالحة *** عنا وجُنّبــتَ خسرانَ الموازينِ
قد كنتَ لي جبــــــلاً صَلداً ألوذ به *** وكنت تصــحبـنا بالرحمِ والدين
من لليتـــــامى ومن للسائلين ومن *** يغني ويـــأوي إليه كلُّ مسكينِ
والله لا أبتغي صـــــهراً بصهركم *** حتى أغيّــــبَ بين اللحدِ والطينِ
في هذه الابيات يطفح الحزن بين ثنايا الكلمات وهو حزن عارم لا تقر العين به ولا تهدأ له الجوانح
بهذه الحرقة الممزوجة بالحزن والأسى تعبر السيدة الرباب عما أصابها من الألم الفادح باستشهاد زوجها سيد الشهداء, وتظهر العاطفة الصادقة جلية ومعبرة عمّا يختلج في حنايا النفس من مشاعر مخلصة ونبيلة.
فكلما كان الفقيد يتمتع بمؤهلات متميزة وشمائل نادرة وخصال فائقة كان التعبير عن الحزن لفقده يأخذ حيزاً أوسع في نفوس الفاقدين فيجسدون ما اعتورهم من شدة الفاجعة لا شعورياً, فكيف إذا كان الفقيد هو سيد شباب أهل الجنة وسبط النبي وريحانته !!
فانطلقت آهة هذه السيدة من خلال شعرها بعد أن غمرتها الحسرة والألم واستحوذت على كل جوارحها واستولت على كل خيالاتها وأجّجت اللوعة رؤاها فأيّ رجل فذ فقدت وأي زوج عظيم تركته قتيلاً في كربلاء ؟
واحسيــــناً فلا نسيت حسيناً *** أقصــــــدته أسنة الأعداءِ
غادروه بكــــربلاء صريعاً *** لا سقى الله جانبي كربلاء
ويتجلى ألمها وحزنها على الحسين في جوابها لمن خطبها بعد استشهاده (ع) فقالت:
ما كنت لأتخذ حَمْواً بعد رسول الله (ص)، فو الله لا يؤويني ورجلاً بعد الحسين (ع) سقف أبداً.
والرباب هي أم الطفل الرضيع الذي رماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه
هي السيدة الرباب بنت أمريء القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن حليم بن خباب بن كلب الكلبية.
كان أبوها نصرانياً من عرب الشام فأسلم وولّاه عمر على من أسلم بالشام من قضاعة, وخطب الإمام علي (ع) ابنته الرباب لابنه الحسين (ع) فولدت له سكينة وعبد الله الرضيع الذي قتل يوم الطف بين يدي أبيه الحسين (ع)
وهي التي قال فيها وفي ابنتها السيدة سكينة هذه الأبيات:
لعمـركَ أنّنـي لأحـــــبُّ داراً *** تـحلّ بهـا سكينـة والربـابُ
أحبّهما وأبــــــذل جـلّ مـالي *** ولـيس للائمـي فيهـا عتابُ
ولستُ لهم وإن عتبوا مطيعاً *** حيــــاتي أو يعلّيني التراب
وصفت المصادر التاريخية الرباب بنت امرئ القيس بأنها كانت من خيرة النساء وأفضلهن، وقد جاء بها الإمام الحسين (ع) مع نسائه إلى الطف، وأسرت وسُبيت معهن الى الكوفة ثم إلى الشام ورجعت معهن إلى المدينة فأقامت فيها لا تهدأ ليلاً ولا نهاراً من البكاء على الحسين (ع) وروي أنها لم تستظل تحت سقف حتى ماتت بعد قتله بسنة كمداً.