أيَّ صباحٍ هذا الذي تُغتال فيه الشمس ؟
أيَّ نهارٍ هذا الذي افتضه سهم ؟ وقصمه سيف ؟ وأسدله رمح ؟
أيَّ يومٍ هذا الذي اختضب صباحه بدماء النبي ؟ وامتزج مساؤه بدماء السماء ؟
إنه اليوم الذي انتظرته بنو أمية طويلاً لتنتقم لقتلاها في بدر من ابن قتال العرب
(خُطَّ الموتُ على ولدِ آدم مَخط القلادة على جيد الفتاة, وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخِيرَ لي مصرعٌ أنا لاقيه، فكأني بأوصالي تُقطّعها عُسلان الفلوات بين النواويس وكربلا فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربةً سغباً، لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم رضاء الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، ولن تشذ عن رسول الله (ص) لُحمَتُه وهي مجموعةٌ في حظيرة القدس، تقرُّ بهم عينه وينجز بهم وعده، فمن كان باذلاً فينا مُهجته مُوطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإني راحلٌ مُصبّحاً إن شاء الله).
عندما كان فقهاء الشريعة الأموية يصبّون في أسماع الناس شعار معاوية (يؤتي الملك من يشاء) طوال فترة حكمه كانوا يحاولون ترسيخ هذا الشعار في أذهانهم وهو أن هذا الحكم هو قدر إلهي لا يمكن تغييره, وإن الله قد اختاره, وكل سلوك أو عمل أو جريمة يرتكبها معاوية كانت تستمد شرعيتها من هذا الشعار, فأفسد النفوس والطباع, وزرع البغضاء والعداء بين الناس بتحريف هذه الآية الكريمة عن موضعها, فماتت الضمائر, وتفشى الغدر والحقد, وأبرز الناس كوامنهم الخبيثة ليسايروا السلطة ويتطبعوا بطباعها, و(الناس على دين ملوكهم) ولم يعد الإنسان يميز بين الخير والشر, الجميل والقبيح, العدل والجور, الحق والباطل, الإيمان والكفر..
لقد اكتسح معاوية أمامه كل العقبات التي تقف في طريق ملكه بالإرهاب والقتل والغدر والترغيب والترهيب والتعذيب فأخذت النفوس تنهار وتتهاوى للتقرب منه, وشيئاً فشياً فقدت كرامتها, وحكمت على نفسها بالإذلال, وأصبح أكثر الناس يتقربون إلى السلطة بالتجسس والغدر والتملق.
لقد أصبح هذا القدر جاثماً على الأمة حتى أمات فيها كل نزوع للخير, وكاد أن يأتي عليها في حكم يزيد لولا الصوت الثائر الذي انطلق من الحسين وهو يدافع عن القيم الإنسانية العليا في المجتمع, ويدعو الناس إلى الارتقاء عن هذا الواقع الجبان المتخاذل الذليل, وهو الهدف الذي اختاره الحسين وصمم عليه واختار الموت من أجل تحقيقه.
وها هو في كربلاء في عاشوراء يعيد هيكلة الإنسان, ويضع له بوصلة الكرامة التي تأبى عليه أن يكون تابعاً وخاضعاً لحاكم سكير عربيد, اجتمعت فيه كل البوائق والرذائل.
خاطب الحسين تلك النفوس التي أصابها جنون السلطة والمال في ذلك اليوم فقال: أيّها الناس اسمعوا قولي، ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما هو حق لكم عليَّ، وحتّى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتهم عذري، وصدّقتم قولي، وأعطيتموني النصف من أنفسكم، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا منّي العذر، ولم تعطوني النصف من أنفسكم، فاجمعوا أمركم وشركاءكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة، ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون، إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولّى الصالحين.
ساد الصمت في جيش ابن سعد, فالكل مصغٍ لكلام الحسين, كانت لحظات رهيبة أحس فيها ابن سعد بالرعب عندما لاحظ تأثير كلام الحسين على بعض الوجوه فأراد أن يغطي على صوته بتعبئة الجيش وإثارة الضوضاء, وكانت هناك خطبتان أيضاً للشهيدين زهير بن القين وبرير بن خضير وعظا فيهما القوم وحذروهم مغبة ما أقدموا عليه وذكروهم بسوء سياسة الأمويين وطغيانهم وقتلهم صلحاء الأمة أمثال حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي وهاني بن عروة وميثم التمار ولكن القوم قطعوا الخطبتين بالسهام فأمرهما الحسين بالرجوع فرجعا.
وتقدم الحسين مرة أخرى ليعظ القوم ويحذرهم فقال: الحمد لله الذي خلق الدنيا، فجعلها دار فناء وزوال، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرته، والشقي من فتنته، فلا تغرنّكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنبكم رحمته، فنعم الرب ربّنا، وبئس العبيد أنتم, أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمّد (ص)، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذرّيته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتباً لكم ولما تريدون، إنا لله وإنا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم، فبعداً للقوم الظالمين.
لم يكن أثقل على ابن سعد من هذا الكلام كان يريد أن ينهي الموضوع سريعاً دون اللجوء إلى المحاججة فبمَ يحاجج من خرج لقتل سبط النبي وسيد شباب أهل الجنة ؟ فصاح في غضب:
ــ ويلكم كلموه, فإنه ابن أبيه, والله لو وقف فيكم هكذا يوماً جديداً لما قطع ولما حُصر فكلموه .. ولكن بِمَ يكلموه وقد أعيا قائدهم الرد ؟
فواصل الحسين خطبته: أيها الناس: انسبوني من أنا، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحل لكم قتلي، وانتهاك حرمتي، ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه وابن عمّه، وأوّل المؤمنين بالله، والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه ؟ أو ليس حمزة سيّد الشهداء عم أبي ؟ أو ليس جعفر الطيار عمّي ؟
أو لم يبلغكم قول رسول الله (ص) لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة. فإن صدّقتموني بما أقول وهو الحق، والله ما تعمّدت الكذب منذ علمت، أنّ الله يمقت عليه أهله، ويضرّ به من اختلقه، وإن كذّبتموني، فإنّ فيكم من أن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبرونكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (ص) لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ؟.
وعندما وصل الحسين إلى هذا الموضع من خطبته كانت هناك محاولة فاشلة من الشمر للرد.., كان رده بأنه لا يفهم ما يقول الحسين !!!
واستمر الحسين في محاججة القوم: (إن كنتم في شك من هذا القول، أفتشكّون فيّ أنّي ابن بنت نبيكم ؟ فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم، ولا في غيركم، ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته ؟ أو مال لكم استهلكته ؟ أو بقصاص جراحة ؟.
ساد الصمت وأطرق الجميع فنادى (عليه السلام): يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا زيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن أقدم، قد أينعت الثمار، واخضرّ الجناب، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة ؟.
لقد واجههم (ع) بالحقيقة لكن نفوسهم الخبيثة أبت إلا أن تركن إلى الشيطان فقالوا: لم نفعل.
فقال (ع): سبحان الله، بلى والله لقد فعلتم.
ثمّ قال (ع): (أيها الناس: إذا كرهتموني فدعوني انصرف عنكم إلى مأمنٍ من الأرض).
فقال له قيس بن الأشعث: أو لا تنزل على حكم بني عمّك ؟ فإنّهم لن يروك إلاّ ما تحب، ولن يصل إليك منهم مكروه ؟
فقال (ع): أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل، لا والله، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد، عباد الله إني عذت بربّي وبربّكم إن ترجمون، أعوذ بربّي وربّكم من كل متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب.
أخذ الموقف يزداد صعوبة على ابن سعد فقد كان لهذا الكلام تأثير السحر في النفوس وبدأت ثماره تؤتي أكلها, فجن ابن سعد وهو يرى بعض أفراد جيشه يفارقوه وينضمون إلى معسكر الحسين وفوجئ بقائد من جيشه وهو يسأله:
ــ أمقاتلٌ أنت هذا الرجل ؟
ــ إي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الايدي.
ــ فما رأيك فيما عرضه عليك من الخصال ؟ ــ في إشارة منه إلى ما بيّنه الإمام الحسين (ع) من قرابته من رسول الله ومكانته ومنزلته
ــ لو كان الأمر بيدي لقبلت ولكن أميرك ابن زياد أبى ذلك..
لقد كذب ابن سعد في قوله هذا ولو كان مكان ابن زياد لفعل فعله وربما فاقه فقد وعده ابن زياد بجائزة عظيمة مقابل قتل الحسين وهي ملك الري ...
وصعق ابن سعد عندما رأى هذا القائد من جيشه بعد لحظات وهو يضرب فرسه متوجِّهاً نحو الحسين للانضمام إليه لقد كان الحر ... إنها خسارة لا تعوّض فالحر لم يكن شخصاً عادياً وقد دق انضمامه ناقوس الخطر في معسكر ابن سعد ويزداد الموقف حراجة ..
لقد رأى ابن سعد الحسين وقد أمسك بيده مصحفاً ثم وضعه على رأسه وتقدم نحو معسكره واستنصتهم فأنصتوا, ثم استشهدهم عن نفسه وعن جده رسول الله وأبيه أمير المؤمنين وأمه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين وجدته خديجة أم المؤمنين وعم أبيه الحمزة سيد الشهداء وعمه جعفر الطيار في الجنة وسيف رسول الله الذي تقلده ودرعه التي لبسها وعمامته التي اعتمرها فأجابوه بالتصديق ثم خاطبهم مؤنباً:
تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلا لكم الويلات، تركتمونا والسيف مشيم والجأش طامن، والرأي لما يستحصف، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدبا وتداعيتم عليها كتهافت الفراش، ثم نفضتموها فسحقاً لكم يا عبيد الأمة وشذاذ الأحزاب ونبذة الكتاب ومحرفي الكلم وعصبة الآثام ونفثة الشيطان، ومطفئي السنن، ويحكم أهؤلاء تعضدون وعنا تخاذلون ؟ أجل والله غدر فيكم قديم وشجت عليه أصولكم وتآزرت عليه فروعكم، فكنتم أخبث ثمر، وشجى للناظر، وآكلة للغاضب، ألا وان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون وحجـور طابت وطهرت، وأنوف حمية ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، الا واني زاحف بهذه الأسرة مع قلة العدد وخذلان الناصر.
ثم أنشد أبيات فروة بن مسيك.
فإن نهزِم فهــــــــــزّامونَ قُدماً *** وإن نُـهزمْ فغير مهزّمينا
وما إنْ طبّنا جبــــــــــنٌ ولكن *** منــــــــايانا ودولةُ آخرينا
إذا ما الموتُ رفّــعَ عن أناسٍ *** كلاكـلَه أنــــــــاخَ بآخرينا
فلو خلدَ الـــــملوكُ إذن خلدنا *** ولو بـقيَ الملوكُ إذن بقينا
فقلْ للشامتـــــــــين بنا أفيقوا *** سيلقى الشامتـون كما لقينا
أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريث ما يركب الفرس حتى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور، عهد عهده إليّ أبي عن جدي, إني توكلت على الله ربي وربكم وما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم، اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سنيناً كسني يوسف، فإنهم غرونا وكذبونا وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا واليك المصير.
لقد كان خطاباً قوياً ومؤثراً أظهر فيه الإمام حقه الكامل في دعوته وشرعية ثورته وإنه الوريث الشرعي لجده خاتم الأنبياء, وهال ابن سعد بعد هذه الخطبة أن يستدعيه الحسين فارتعد ولكنه لم يجد بداً من الإجابة فلما وقف قريباً منه قال له الحسين:
أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدعي بن الدعي بلاد الري وجرجان !! والله لا تتهنأ بذلك أبدا، عهد معهود، فاصنع ما أنت صانع، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأني برأسك على قصبة بالكوفة، يتراماه الصبيان ويتخذونه غرضا بينهم .
غضب ابن سعد وأحس بخطورة الموقف وخشي إن لم يحسم الأمر أن يصل كلام إلى ابن زياد أنه قد تهاون في قتال الحسين, كما خشي من تأثير كلام الحسين فتناول سهماً ورمى به نحو معسكر الحسين وقال:
إشهدوا لي عند الأمير إنني أول من رمى !!
كان هذا السهم الشرارة التي أشعلت أوار المعركة فتبعته آلاف السهام فقال الإمام الحسين لأصحابه:
ــ قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بد منه فإن هذه السهام رسل القوم إليكم...
احتدم القتال سريعاً وقاتل أصحاب الحسين بشجاعة فائقة أذهلت العدو حتى سقطوا جميعاً, ثم تبعهم أهل بيته وأولهم ولده علي الأكبر حتى قتلوا جميعا بين يديه وبقي وحده, واشتد الظمأ بالنساء والأطفال, فحمل طفله الرضيع ليسقيه بنفسه, ولكن سهماً أتاه فذبحه وهو بين يديه, فشهر سيفه وقاتل قتالاً زعزع عسكر ابن سعد حتى قتل, فقطع الشمر رأسه الشريف, ووطأت الخيل جسده, ورُضّت أضلاعه, ثم قطعت رؤوس أهل بيته وأصحابه, وحملت مع نسائه وأطفاله وعياله وهم سبايا إلى ابن زياد في الكوفة, ومنها إلى يزيد في الشام !!!
لقد قتل الحسين ولكن صوته لم ولن يموت.., لقد قطع رأسه لكن هذا الرأس المقطوع روّى شريعة الإسلام التي ستبقى مشعة ومضيئة بتضحياته ودمه.., لقد سُلب ثوبه وردائه لكنه كسا الدنيا ثوب الحرية والكرامة .., لقد دِيس على صدره بحوافر الخيول لكنه زرع في الصدور معنى الإباء ورفض الظلم والتجبّر والاستبداد.
كان من معطيات الثورة الحسينية العظيمة أنها حطمت حاجز الخوف وأزالت حجب الخنوع من النفوس للحاكم الظالم والطغمة الأموية الفاسدة وأوجدت مساحة واسعة للدفاع عن الحقيقة والعدل والمطالبة بالحقوق المغتصبة والدعوة إلى الحرية والوقوف بوجه الظلم والاستعباد.