تغلغلت كربلاء إلى الضمير الإنساني عبر العصور وتخطّت حدود جغرافيتها، وطوت تضاريسها، فلم تعد خاضعة لبقعة معينة من الأرض بل أصبحت رمزاً في التضحية والعطاء عبر الأزمنة، والأمكنة، والأحداث، فأصبحت قبلة لعشاق البطولة والإباء بغض النظر عن دينهم وانتماءاتهم ومثلما هز الصوت الحسيني البطل وهب المسيحي فلا يزال هذا الصوت متجددا يهز الضمائر الحرة من الشعراء والكتاب المسيحيين الذين وجدوا في وهب أسوة حسنة، فتجسد ذلك في شعرهم ونثرهم فكتبوا الملاحم والقصائد الطويلة وألفوا الكتب والموسوعات عن كربلاء.
ويطالعنا الأدب العربي بقائمة كبيرة من قاماته السامقة من الشعراء والأدباء المسيحيين استلهموا من علي والحسين الروح الإنسانية الكبيرة فكتب الشاعر اللبناني بولس سلامة ملحمة (الغدير) التي تبلغ أكثر من ثلاثة آلاف بيت، كما كتب ملحمة (علي والحسين) التي تبلغ (220) بيتا، وكتب عبد المسيح انطاكي (الملحمة العلوية) التي تبلغ (5595) بيتا، وكتب ريمون قسيس ملحمة (الحسين).
أما على صعيد التأليف فقد ألف عن الإمام علي والحسين الكثير من الأدباء المسيحيين منهم سعيد عقل وأمين نخلة ونصري سلهب وسليمان كتاني وخليل فرحات وجوزيف الهاشم وجورج جرداق وغيرهم، لقد وجدوا في كربلاء عنوان الحرية والمبادئ الحقة والنهج لشعوب تطمح إلى استقلالها يقول بولس سلامة:
سوف يبقى الدم الزكي لواء *** لشعوب تحاول استقلالا
ويقول أدوار مرقص:
يا غرة الشهداء من عليائها *** لوحي عليهم كالضياء العاقد
موسومة بدم الشهادة فهي لا *** تنفك تدمي مثل زند فاصد
كيما يسيروا في الحياة بنهجه *** لا يخضعون لغاصب ومعاند
ويقول ريمون قسيس من ملحمته (الحسين):
جئت أروي مسيرة لحسين *** أتملاها نور وحي وقبس
وسراجا مزهوهرا ووضيئا *** ولئن كانت الجسوم لحسّ
وسماء بكت فيحيى بكته *** فحسين بكته في قطع رأسِ
وفي هذا الموضوع اخترنا نماذج للشعر المسيحي لأربعة شعراء توهج شعرهم في كربلاء:
1 ـــــ إدوار مرقص: (1296 ــــ 1368ه/1878 ــــ 1948م)
إدوار نقولا مرقص شاعر وكاتب وصحفي سوري ولد في اللاذقية في سوريا ودخل المدارس فيها وعمل معلما في بلدته وطرابلس ومصر كما عمل محررا في صحف ومجلات سوريا ومصر ولبنان وترجم أعمالا أدبية إلى العربية أكثرها فرنسية، كان عضوا في المجمع العربي بدمشق ويعد من كبار كتاب المقالة الصحفية في الوطن العربي، له العديد من المؤلفات الأدبية وترجم العديد من الكتب الفرنسية إلى العربية له ديوان شعر ضم قصيدة استوحاها من القيم العليا التي حملها الإمام الحسين في كربلاء يقول منها:
ركبَ الحسينُ إلى الفخارِ الخالدِ *** بيضِ الصفاحِ فكان أكرمَ رائدِ
حشدَ الطغاةُ عليه كل قواهمُ *** وحموا عليه وردَ ماءٍ باردِ
وتخيّلوه يستجيب إليهم *** أما أحسّ من الظما بالرافدِ
تأبى البطولة أن يذلّ لبغيهم *** من لم يكن لسوى الإله بساجدِ
أيهابُهم سبطُ النبي وعنده *** جيشٌ من الإيمانِ ليسَ بنافدِ
حسبُ الفتى من قوةٍ إيمانه *** ولـ (كربلاء) عليه أصدقُ شاهدِ
2 ـــــ بولس سلامة:(1902 ـــــ 1979)
أديب وشاعر مسيحي ولد في جزين في لبنان درس الحقوق في الجامعة اليسوعية وعمل قاضيا سنة (1928)، له ملحمة (الغدير) التي تبلغ أكثر من ثلاثة آلاف بيت في سبعة وأربعين فصلا تناول فيها تاريخ الإسلام منذ بدء الدعوة المحمدية المباركة حتى يوم كربلاء وله غيرها الكثير من القصائد في مدح الإمامين علي والحسين يقول في أحد فصول ملحمته (الغدير):
أنزلوه بـ (كربلاء) وشادوا *** حوله من رماحهم أسوارا
لا دفاعا عن الحسين ولكن *** أهل بيت الرسول صاروا أسارى
قال: ما هذه البقاع فقالوا: *** كربلاء فقال: ويحك دارا
هاهنا يشرب الثرى من دمانا *** ويثير الجماد دمع العذارى
بالمصير المحتوم أنبأني جدي وهيهات أدفع الأقدارا
إن خلت هذه البقاع من الأزهار تمسي قبورنا أزهارا
أو نجوما على الصعيد تهاوت *** في الدياجير تطلع الأنوارا
تتلاقى الأكباد من كل صوب *** فوقها والعيون تهمي ادكارا
من رآها بكى ومن لم يزرها *** حمل الريح قلبه تذكارا
((كربلاء) ستصبحين محجّاً *** وتصيرينَ كالهواءِ انتشارا)
وزخرت ملحمته بفصول كربلاء ومنها هذا البيتان:
يا ضياء الغروبِ في (كربلاء) *** دونكَ الشمس في الغروبِ ضياءُ
شاعرٌ مقعدٌ جريحٌ مهيضٌ *** كل أيامه غدت (كربلاءا)
أما في ملحمته (علي والحسين) التي تبلغ (220) بيت فقد كانت روحه في كربلاء تقتبس من شعاع الشهيد:
(كربلا) يا مغرب الشمس غصت *** بالشعاع الشهيد يوم انطفائه)
ويختتم ملحمته بكربلاء:
(شاعر صدره جحيم مقيم *** وفؤاد يموت في (كربلائه)
3 ـــــ جورج شكور: ولد 1935
جورج حنا شكور شاعر مسيحي ولد في قرية شيخان قضاء جبيل في لبنان حاصل على شهادة الليسانس في الأدب العربي عمل في التدريس وعين رئيسا لدائرة اللغة العربية في كلية الشرق الأوسط في لبنان والأمين العام المساعد لاتحاد الأدباء والكتاب اللبنانيين نشر في العديد من الصحف والمجلات اللبنانية كما شارك في العديد من الأماسي الشعرية له كتاب (البيان) وله ديوانا شعر هما (وحدها القمر) و(زهرة الجماليا) أسس ناديا ثقافيا في قريته شيخان ولشكور ملحمة اسمها (الحسين) تبلغ (80) بيتا نترك بعض أبياتها تترجم ما تمثله له كربلاء من معنى:
يا (كربلاء) أأنت الكرب مبتلياً *** وأنت جرح على الأيام نغّارُ
لالا وثيقة حق أنت شاهدة *** أن في الخليقة أشرارٌ وأخيارُ
وجولة البطل إن طالت لها أجل *** والحق جولته في الدهر أدهارُ
كل الزعامات إن شيدت على ظلم *** كالبطل ولت وصرح الظلم ينهارُ
ووحدها نسمات الروح باقية *** على الزمانِ كأن العمر أعمارُ
يا (كربلاء) لديكِ الخسرُ منتصرٌ *** والنصرُ منكسرٌ والعدلُ معيارُ
وفيكِ قبرٌ غدت تحلو محجته *** يهفو إليه من الأقطارِ زوارُ
4 ـــــ ريمون قسيس
شاعر مسيحي ولد في زحلة بلبنان درس في الكلية الشرقية ومارس التدريس والعمل الإداري في دائرة التربية الوطنية في البقاع شارك في أمسيات ولقاءات ومهرجانات شعرية كما شارك في حلقات إذاعية وندوات ومؤتمرات عبر (حركة الحوار والثقافة في لبنان)، عضو مجلس قضاء زحلة الثقافي وعضو اتحاد كتاب لبنان وعضو مؤسس في حركة الحوار والثقافة في لبنان ونائب رئيس واحة الأدب في البقاع، يكتب الشعر باللغتين العربية والفرنسية صدرت له خمس مجموعات شعرية هي (علي، الفارس، الفقيه، الحكيم) عام (1991) و(قصائد أولى باللغة الفرنسية) عام (1997) و(أوراق شاعر) عام (2004) و(منائر) عام (2005) و(الحسين) عام (2010)، وله عدة مخطوطات شعرية بالعربية والفرنسية، منح عدة أوسمة من مراجع لبنانية، وتعد ملحمته (الحسين) التي تبلغ (115) بيتا على وزن واحد وقافية واحدة إشراقة روح شاعر تفجرت فيها المشاعر معبقة بدماء كربلاء يقول الدكتور ميشال كعدي في المقدمة التي قدمها للملحمة: (الحسين هو القتيل في سبيل الله، والإيمان والعقيدة والإسلام، وهو الشهيد الذي ترك من نثير طلعته الغراء على أرض البطولة قدرة بحجم المستحيل)، ويقول أيضا: (ملحمة قسيس تشير إلى عزم كربلائي ما تضاءل إزاء قدرات مجتمعة وشدة كبيرة فبقي الحسين البطل القادر في معركة تفوق حجم المعارك كلها على أرض كربلاء)، ولنستمع إلى قسيس وهو يفتتح ملحمته: